ينقلك الشيخ محمد رشاد الشريف، قيثارة الخليل ومقرئ مسجدها الإبراهيمي، بصوته الذهبي في تلاوة القرآن الكريم، إلى عالم من الروحانية، تشعرك بالسكينة والهدوء، وتذهب بك برحلة سرمدية على أجنحة الملائكة، تضعك بين الأنبياء والأولياء والصالحين، لتعيش بكل جوارحك وأحاسيسك معاني الآيات القرآنية في قالب سهل وبصوت يخطف الألباب، لتتفاعل معها خلايا الجسد كلها وتمتلك القلوب.رحلة قرآنيةويعود الشيخ الشريف، الذي تجاوز الخامسة والثمانين ربيعا، بذاكرته ورحلته ومشواره مع الرحاب القرآنية، مشيرا أنه ولد عام 1925 في الخليل، نشأ وترعرع فيها، وعندما كان في الصفوف الابتدائية كان يختلس الاستماع عبر المذياع الوحيد بأحد مقاهي المدينة إلى صوتا رخيما يتلو القرآن بأسلوب رائع وجميل، فستهواه هذا الصوت بل وأدمنه، لاعتقاده وظنه بأنه صوت أخيه الذي قرأ فيما بعد في إذاعة الشرق الأدنى بيافا، وعندما اكتشف أنه ليس صوت أخيه بل يشبه، راح يسأل عن صاحب هذا الصوت الملائكي، فقيل له بأنه صوت "الشيخ محمد رفعت" الذي يقرأ من الإذاعة المصرية، ولأنه كان عيبا على الأطفال دخول المقهى، فقد آثر الوقوف خلف المقهى صيفا وشتاء وقبيل الساعة العاشرة ليلا للاستماع بشغف كبير لتلاوة هذا الشيخ، وهكذا بدأ حبه للقرآن وتلاوته وتجويده.ولم يكتف الشيخ الشريف بمذياع مقهى الخليل بل كان يذهب إلى القدس حيث البيوت التي يرتفع عليها " انتيل " ليتسمر بالقرب منها ويستمع إلى الشيخ رفعت، إلى وضعت وأنهت أخته المقيمة بالقدس حدا لمعاناة، وكان ذلك في العام 1936م، مشيرا أنه فأصبح يزورها يوم الجمعة ليستمع إليه مساء ويبيت في منزلها ثم يعود صباح السبت إلى الخليل لمدرسته.محاكاة الشيخ وتقليدهولتشابه حنجرة وصوت الشيخ الشريف مع الشيخ رفعت الذي عرف فيما بعد بشيخ المقرئين في القرن العشرين، بدأ بمحاكاته وتقليده بكل دقة، فحفظ كل ما سمعه عنه، ثم كان يعيد تلاوته بنفس الطريقة والصوت، وبذلك تعلم الترتيل الذي لم يجد فيه صعوبة نظرا لكونه وليد عائلة ذات أصوات جميله، وذاع صيته وبدأ يقرأ القرآن في المناسبات والاحتفالات، واستمر على ذلك حتى العام 1941م، عندما أرسله مفتى الخليل الشيخ عبد الله طهبوب، إلى إذاعة القدس التي وافقت على قراءته وبذلك عمل مع مدير الإذاعة آنذاك المرحوم عجاج نويهض ومدير البرامج الشاعر إبراهيم طوقان شاعر فلسطين.محمد رفعت فلسطينجعل الشيخ الشريف، من شقيقه محمد عزت الشريف، الذي كان يدرس بالأزهر آنذاك، مرسالا وسلمه عدة رسائل للشيخ رفعت لاقت استحسانه، فاستمع إلى صوته عبر أثير صوت القدس، وأعجب به وعندها أطلق عليه محمد رفعت الثاني أو محمد رفعت فلسطين، وكان ذلك عام 1944م.ويرى الشيخ الشريف، أن الله سخره كرامة للشيخ رفعت الذي توفي عام 1950م، حيث كانت هناك توصية من جهات نافذة بعدم التسجيل للشيخ رفعت لأنه أثر على غير المسلمين محليا وعالميا حتى ممن لا يعرفون اللغة العربية فاسلم عدد منهم بسبب أدائه المميز المؤثر، مؤكدا أن الشيخ محمد رفعت كان يقرأ من مصر ولم يتم تسجيل القرآن بصوته، وكان من أفضل من تغنى بالقرآن، مشيرا أن معظم التسجيلات التي تذاع للشيخ محمد رفعت لا تمثل تلاواته مطلقا، بل أن أكثرها أساءت إليه، لافتا أنه في السادس والعشرين من آب عام 1952، كتبت صحيفة "المصري" المصرية، خبرا عنونته "صوت الشيخ محمد رفعت يبعث من جديد بصوت الشاب محمد رشاد الشريف".وإذا كان الشيخ محمد رفعت، والملقب أيضاً قيثارة السماء، بمثابة الأستاذ الفني، الأدائي والإلقائي، فإن الشيخ حسين أبو اسنينه، الذي كان يعتبر أحد علماء القراءات في العالم الإسلامي ومصر هو الأستاذ القرآني له، مشيرا أنه أجازه بقراءتي حفص وورش، بالإضافة عن تلقيه علوم العربية والدين في الأزهر الشريف من خلال كبار العلماء.مقرئ الحرمينكان الشيخ الشريف، وبعد تعينه رسميا أوائل الستينات مقرئا للحرم القدسي الشريف، يقرأ جمعة بعد جمعة، كونه كان يقرا أيضاً في الحرم الإبراهيمي الشريف، ولذلك أطلق عليه لقب مقرئ الحرمين المسجد الأقصى والمسجد الإبراهيمي، مشيرا أنه كان يخصص يوما في رمضان للقراءة عصرا في الأقصى لتذاع عبر أثير الإذاعة الأردنية ليلا، لافتا أن الناس كانوا يأتون إلى الأقصى والحرم الإبراهيمي للاستماع خصيصا إليه من فلسطين وخارجها، كما كان يطلب منه التلاوة في افتتاح المؤتمرات الإسلامية السنوية في القدس، ما فسح المجال أمامه للالتقاء بأهل العلم والخطباء من مختلف دول العالم، منوها انه كانت مدة المؤتمر في الأقصى أسبوعا.وبين الشيخ الشريف، انه بعد بليت القدس والمسجد الأقصى بالاحتلال الإسرائيلي عام 1967م، وتوقف انعقاد المؤتمر الإسلامي في القدس، عوضه الله بأهل فلسطين التي احتلت عام 1948، حيث كان ساحات وباحات الحرم القدسي تعج بالمصلين منهم، وكانوا يأتون للصلاة خلفه والاستماع إلى صوته الشجي.تسجيل القرآن كاملاكلف الشيخ الشريف، بتسجيل القرآن كاملا ليوزع على العالم للاستماع لهذه التلاوة التي تشد إلى كتاب الله، إثر انعقاد المؤتمر الإسلامي الذي عقد في جده سنة 1980م، وطلب من وزير الأوقاف الأردني الأسبق كامل الشريف، وكان ممثلا للأردن في هذا المؤتمر، باستدعائه إلى عمان لتسجيل القرآن، مشيرا أنه بدأ بذلك في العام 1948 وانتهى منه عام 1984، موضحا أن وزارة الأوقاف الأردنية تولت توزيع نسخ من هذا المصحف على الضيوف من العلماء والمسؤولين، إلى أن تم تحديث تسجيل المصحف، وأعيد تسجيل بعض السور، وأضيفت قراءات المسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي الترتيلية البطيئة، بإشراف شركات متخصصة على أقراص مدمجة (C.D).الشيخ المعلممارس الشيخ الشريف، وخلال ما يزيد عن أربعين عاما، مهنة التدريس بتعليم اللغة العربية وعلوم القرآن، وكذلك مادتي التاريخ واللغة الانكليزية، التي بدأها عام 1940م، عندما بلغ من العمر ثمانية عشر عاما، فتنقل بين مدارس الحكمة والمحمدية بالقدس والإبراهيمية وأسامة بن منقذ في الخليل، ودرس لخمس سنوات في جامعة الخليل علوم القرآن، بالإضافة إلى دور القرآن الكريم التي كان مشرفا عليها، حيث تم تعيينه على السدة في الحرم الإبراهيمي يومي الجمعة وعصر الاثنين.أسرار الترتيلويرى الشيخ الشريف، إن قراءة القرآن الصحيحة، هي نتيجة عوامل كثيرة عند المقرئ الذي يجب أن تتوفر فيها الشروط الأساسية التالية: أن يكون خاشيا لله عز وجل، محبا لنشر كلمات القرآن بين الناس وحفظه والإلمام التام بالتفاسير ومعرفته الكبيرة بقواعد اللغة العربية من نحو وصرف وأفعال وما إلى ذلك إضافة إلى تحليه بالأخلاق الطيبة الحسنة، وان يكون صاحب صوت كامل الطبقات وواعيا للموسيقى العربية ومطلعا على المقامات وان يكون قد درس على شيخ أو مشايخ معتمدين أقوياء.مواهب متعددةوأكرم الله الشيخ محمد رشاد الشريف، بتعدد المواهب، فهو لم يكتفي بمعرفته التامة لقواعد القرآن الكريم وإجادته للترتيل والتجويد القرآني، بل تعدى ذلك، مشيرا أنه وجد نفسه مشدودا منذ نعومة أظفاره للاستماع والاستمتاع بالأشياء الفنية وبدقة، ليصبح في فترات حياته أديبا وشاعر له ديوان شعري لم يطبع نظرا لتركيزه على علوم القرآن المتعددة، موضحا أنه بدا قرض الشعر ونظمه عام 1937، لافتا أن يحب قصيدة بعنوان "إلى خنساء فلسطين" وجهها للشاعرة فدوى طوقان خلال بداياتها في كتابة الشعر الحر، وقصيدة "يا فتاة الإسلام" وقصيدته التي وجهها إلى المعلم نظرا لدوره الكبير في المجتمع بعنوان "أيها المعلم" وهي عبارة عن قصيدة من 32 بيتا، من بين قصائده التي تقارب المائة، وخطاطا يتقن فن الخط الرقعي وكذلك الخط الفارسي وخط الثلث، حيث قام بتأليف كتاب اللغة العربية للصف الأول بتكليف من وزارة التربية والتعليم في الأردن، مستخدما في كتابه خط الرقعة في تعليم الأطفال، مستندا على الطرق الصحيحة في عملية التعليم للأطفال الصغار مبتدئا من الحرف ثم المقطع ثم الكلمة ومن ثم الجملة، وموسيقيا يعرف الألحان والانغام الموسيقية بدون آلات طرب، ويعرف عن يقين أصول التلحين، مشيرا أن المقرئ إذا كان جاهلا بالموسيقى فإنه يقرأ القرآن في قالب لا يظهر معاني القرآن العظيمة، منوها أن الكثير من أصحاب الأصوات الجميلة لا ينشدون المقطوعة الغنائية إلا بعد أن يلحنها موسيقار كبير حتى يعرف المطرب كيف يؤدي هذه الأغنية، ولذلك فإنه من باب أولى بأن يكون المقرئ عالما بهذه الأمور حتى يقرأ بقالب فني صحيح يبرز المعاني القرآنية وأهداف القرآن ومقاصده حتى يكون له الأثر البالغ في قلوب السامعين.جينات وراثيةوأورث الشيخ الشريف، الذي له خمس أبناء، صوته لنجله معروف، إمام مسجد الشهيد الملك عبد الله الأول ومؤذن الآذان الموحد في العاصمة الأردنية عمان والتي يكاد يملؤها رحابها بالإيمان، مشيرا أنهما يحمل نفس الخصائص والموهبة بل والنبرة الرخيمة الأصيلة والشبه الكبير جدا بين صوت وحنجرة الشيخ محمد رفعت، وكذلك لابنه الشهيد إمام، الذي استشهد عام 2001م، منوها أن العالم الإسلامي خسر صوتا ومقرئ كبيرا.حلمويحلم الشيخ محمد رشاد الشريف، بعد أن أدى رسالته على أكمل وجه في التربية والتعليم والدين، ومنح شهادات عديدة أعظمها كما يقول منحه شهادة النسب من رابطة آل البيت وهو المجلس الأعلى للسادة الأشراف وشهادة تقدير من وزارة الأوقاف والشؤون الدينية ومن الاتحاد العام للمعلمين الفلسطينيين، شهادة الخدمة المتميزة من وزارة التربية التعـيم بعودة القدس إلى الحضن العربي الإسلامي وان يعم السلام ربوع فلسطين محررة من دنس الاحتلال. منقول تقرير : جهاد القواسمي
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
Write التعليقات